الخدمة العسكرية في المغرب: بين الواجب الوطني والتنشئة المواطنة

الخدمة العسكرية في المغرب: بين الواجب الوطني والتنشئة المواطنة

 


تُعد الخدمة العسكرية من المواضيع التي تثير اهتمامًا واسعًا في المغرب، سواء من حيث بعدها القانوني أو الاجتماعي أو حتى السياسي. وقد شهدت هذه الخدمة تحولات كثيرة في المغرب، خاصة بعد إعادة العمل بها سنة 2019، بعد أن كانت معلقة منذ عام 2006. يعود الجدل الدائر حول الخدمة العسكرية إلى ما تحمله من دلالات تتعلق بالهوية والانتماء والمواطنة، وكذا ما تحققه من منافع فردية وجماعية، وما تطرحه من تساؤلات حول الحريات الفردية والحقوق.

يهدف هذا المقال إلى تقديم دراسة شاملة حول الخدمة العسكرية بالمغرب، من خلال الوقوف على أبعادها القانونية والتاريخية والاجتماعية، وتحليل آثارها المحتملة على الشباب والدولة والمجتمع، فضلاً عن استعراض الآراء المختلفة بشأنها، ومدى إسهامها في تحقيق أهداف التنمية والاندماج الاجتماعي.

 

الفصل الأول: الإطار القانوني والتاريخي للخدمة العسكرية بالمغرب

1.1 الخدمة العسكرية في التشريعات المغربية

أعيد العمل بالخدمة العسكرية في المغرب سنة 2019 بموجب الظهير الشريف رقم 1.18.95 الصادر في 26 من ذي الحجة 1439 (7 سبتمبر 2018)، والذي يقرّ بعودة التجنيد الإجباري لمدة 12 شهرًا للشباب المغربي، ذكورًا وإناثًا، الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و25 سنة. وقد نص القانون رقم 44.18 على عدد من المبادئ التي تؤطر هذا الواجب، من بينها المساواة بين المواطنين، وضمان حقوق المجندين خلال فترة التدريب، والتدرج في التأهيل العسكري والمدني.

تُستثنى بعض الفئات من الخدمة، مثل الذين يعانون من أمراض جسدية أو نفسية، والطلبة، ومن يعيلون أسرًا، أو أولئك الذين صدر في حقهم عفو لأسباب خاصة.

1.2 تطور الخدمة العسكرية تاريخيًا في المغرب

عرف المغرب الخدمة العسكرية منذ عهد الحماية الفرنسية، غير أن تأطيرها القانوني كان متفاوتًا حسب المراحل. بعد الاستقلال، تم اعتماد نظام الخدمة العسكرية الإلزامية ضمن السياسة الدفاعية الوطنية، وظل معمولًا به حتى 2006، حين تم تعليقه لأسباب تتعلق بإعادة هيكلة القوات المسلحة والاهتمام بالكفاءات المتخصصة.

عودة الخدمة العسكرية سنة 2019 جاءت في سياق استراتيجي وأمني جديد، استجابةً لحاجة الدولة إلى إعداد جيل من الشباب قادر على المساهمة في الدفاع عن الوطن، وفي الوقت ذاته، تعزيز روح الانضباط والوطنية.

 

الفصل الثاني: أهداف الخدمة العسكرية ودلالاتها الوطنية

2.1 تنمية روح المواطنة

من أبرز الأهداف المعلنة للخدمة العسكرية في المغرب هي تنمية حس الانتماء الوطني، وترسيخ القيم المشتركة بين المواطنين، وتعزيز الوعي بحقوق وواجبات المواطنة. ويُنتظر من الخدمة العسكرية أن تساهم في توحيد صفوف الشباب، بغض النظر عن اختلافاتهم الاجتماعية أو الثقافية أو الجغرافية.

2.2 التأهيل المهني والإدماج الاقتصادي

يُنظر إلى الخدمة العسكرية أيضًا كفرصة لتكوين الشباب مهنيًا وتقنيًا، حيث يُقدم المجندون على تلقي دورات في ميادين مختلفة، مثل الكهرباء، الميكانيك، الإعلاميات، الإسعافات الأولية، الحلاقة، الطهي وغيرها. ما يُعدهم للانخراط في سوق الشغل بعد نهاية الفترة العسكرية، ويمنحهم فرصة لتغيير مسارهم المهني نحو الأفضل.

2.3 تعزيز الأمن القومي

من الجانب الأمني، تعتبر الخدمة العسكرية وسيلة لرفع جاهزية الدولة في حالة الطوارئ، وتشكيل احتياطي بشري مدرّب يمكن الاعتماد عليه في أوقات الأزمات، سواء كانت حروبًا أو كوارث طبيعية.

الفصل الثالث: التأثيرات الاجتماعية والنفسية على الشباب المغربي

3.1 الخدمة العسكرية كمرحلة انتقالية نحو النضج

تُعد الخدمة العسكرية محطة حاسمة في مسار عدد من الشباب، حيث توفر لهم بيئة منظمة وصارمة تساعدهم على الانتقال من مرحلة المراهقة إلى مرحلة النضج والمسؤولية. ضمن هذا الإطار، تساهم فترة التجنيد في صقل الشخصية، وتنمية مهارات الانضباط الذاتي، احترام الآخر، والعمل الجماعي، وهي قيم غالبًا ما يفتقدها الشباب في الحياة المدنية، لا سيما في ظل تزايد مظاهر الفردانية واللا مبالاة.

3.2 تنمية الثقة بالنفس وتحقيق الذات

تؤكد العديد من الشهادات الميدانية أن الخدمة العسكرية تُعزز لدى المجندين الشعور بالثقة بالنفس، وتدفعهم لاكتشاف قدراتهم الحقيقية في ظل ظروف التحدي والانضباط. فالتجربة تمثل خروجًا عن النمط اليومي الاعتيادي، وتضع الفرد في مواجهة مباشرة مع الذات ومع الآخر، مما يُسهم في بناء تقدير أكبر للذات وتحقيق الشعور بالإنجاز.

3.3 الآثار النفسية السلبية الممكنة

رغم الجوانب الإيجابية، فإن بعض المجندين قد يواجهون صعوبات نفسية ناجمة عن الضغط البدني والانفعالي داخل المعسكرات، خاصة من لم يتعودوا على حياة الجماعة الصارمة أو من يعانون هشاشة نفسية. وقد تم تسجيل بعض الحالات التي تتطلب مواكبة نفسية أو اجتماعية، خصوصًا في الأسابيع الأولى من التدريب، وهو ما دفع القيادة العسكرية إلى تعزيز الدعم النفسي داخل مراكز التجنيد.

 

الفصل الرابع: التحديات والانتقادات الموجهة للخدمة العسكرية

4.1  جدل الإلزامية والحرية الفردية

يُثار في الأوساط الحقوقية والطلابية جدل واسع حول مدى توافق الخدمة العسكرية الإلزامية مع الحرية الفردية. ويعتبر بعض المعارضين أن فرض التجنيد يُقيد حق الفرد في تقرير مصيره، ويُناقض مبدأ "الاختيار" في الانخراط بالمؤسسات العسكرية. غير أن أنصار الخدمة يرون فيها واجبًا وطنيًا لا يقل أهمية عن التعليم أو أداء الضرائب.

4.2 التفاوت الاجتماعي في الإعفاءات

من بين أبرز الانتقادات الموجهة للنظام الحالي، ما يُعتبر "تمييزًا غير معلن" في الإعفاءات، حيث يشير البعض إلى أن أبناء الطبقات الغنية أو ذات النفوذ غالبًا ما ينجحون في تفادي الخدمة، في حين يتحملها أساسًا أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة. هذه الملاحظة تُهدد بتقويض مبدأ المساواة الذي يُفترض أن يشكل أساس النظام.

4.3 ضعف استثمار مخرجات التجنيد في سوق الشغل

رغم التأهيل المهني الذي يتلقاه المجندون، إلا أن كثيرًا منهم يعاني من صعوبة في إيجاد فرص عمل حقيقية بعد نهاية الخدمة، ما يجعل البعض ينظر إليها كتجربة معزولة لا تضمن مستقبلًا مهنيًا واضحًا. وقد دعا خبراء إلى ضرورة إدماج المجندين ضمن برامج وطنية لتشغيل الشباب، وتسهيل ولوجهم إلى سوق الشغل عن طريق تحفيزات خاصة.

4.4 تساؤلات حول الميزانية والتكلفة

تُطرح أيضًا تساؤلات حول الكلفة الاقتصادية العالية لتنظيم وتدبير عملية التجنيد، من حيث الإيواء، التغذية، التكوين، الأجور والتجهيزات. ويرى بعض المنتقدين أن هذه الأموال كان يمكن توجيهها لقطاعات اجتماعية مثل التعليم والصحة، خصوصًا في ظل محدودية الموارد.

     الفصل الخامس: مواقف الأحزاب والمجتمع المدني

·         6.1موقف الأحزاب السياسية

·         غالبية الأحزاب المغربية رحّبت بعودة الخدمة العسكرية، واعتبرتها خطوة لتعزيز المواطنة والانضباط. ومع ذلك، عبّرت بعض الأحزاب اليسارية والليبرالية عن تخوفها من الطابع الإجباري، داعية إلى ضرورة ضمان الحقوق الأساسية للمجندين، ومراعاة الحالات الاجتماعية والصحية.

·         الحزب الاشتراكي الموحد، على سبيل المثال، شدد على ضرورة الربط بين التجنيد وسياسات التشغيل، بدل أن تكون الخدمة غاية في حد ذاتها. في حين أشار حزب الاستقلال إلى أهمية هذه التجربة في خلق "جبهة وطنية شبابية" قادرة على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية.

·         6.2 مواقف المنظمات الحقوقية والمدنية

·         المنظمات الحقوقية انقسمت بين من ينظر إلى الخدمة العسكرية كآلية لتأطير الشباب وضبط السلوك المجتمعي، وبين من يعتبرها خطرًا على الحريات الفردية، خصوصًا في ظل غياب الشفافية الكافية حول كيفية الانتقاء والإعفاء.

·         الجمعيات المدنية الناشطة في مجالات التعليم والتشغيل ترى أن الخدمة يمكن أن تكون مفيدة، إذا ما تم دمجها في مشروع مجتمعي شامل، يشمل التكوين المستمر، الدعم النفسي، والولوج العادل لسوق الشغل.

 

·         الفصل السادس: نظرة مستقبلية لتطوير الخدمة العسكرية بالمغرب

·         7.1 نحو منظومة تجنيد متكاملة

·         لتطوير تجربة التجنيد، يجب إعادة النظر في مسار الخدمة العسكرية كمحطة تكاملية تربط بين التربية، التكوين، والمواطنة. ويتطلب ذلك التنسيق بين وزارة الداخلية، وزارة التربية الوطنية، وزارة الإدماج الاقتصادي والمقاولات، والمؤسسات العسكرية، لوضع رؤية استراتيجية شاملة.

·         7.2 تعزيز التكوين وفتح آفاق التشغيل

·         ينبغي توسيع مجالات التكوين داخل المعسكرات لتشمل تخصصات حديثة مثل البرمجة، الطاقة الشمسية، الطباعة ثلاثية الأبعاد، والتجارة الإلكترونية. كما ينبغي وضع اتفاقيات شراكة مع مؤسسات القطاع الخاص لاستيعاب المجندين بعد انتهاء خدمتهم.

·         7.3 العدالة الاجتماعية في الانتقاء

·         من المهم ضمان مبدأ المساواة في الاستدعاء والإعفاء، مع اعتماد لجان مستقلة وشفافة للبت في الملفات. كما يُستحسن اعتماد نظام إلكتروني لتسجيل وتتبع الحالات، لضمان النزاهة وتفادي التمييز.

·         7.4 تعزيز المواكبة النفسية والدعم بعد الخدمة

·         ينبغي أن تُرافق تجربة التجنيد ببرامج للدعم النفسي والاجتماعي، وأن يُتاح للمجندين السابقين متابعة مجانية للتكوين أو الحصول على منح لإتمام دراستهم أو تأسيس مقاولاتهم.

الفصل السابع: خلاصة شاملة

8.1 تجنيد وطني برؤية مزدوجة

تُظهر التجربة المغربية في مجال الخدمة العسكرية أن الأمر لا يقتصر فقط على واجب وطني تقليدي، بل هو مشروع اجتماعي وتربوي له أبعاد متعددة. إذ يجمع بين التحصين الأمني للمجتمع، وتكوين شخصية المواطن، وفتح آفاق للشباب نحو حياة أكثر انضباطًا واستقرارًا. كما أن إدماج الإناث في الخدمة شكّل نقطة تحول نوعي في مسار التجنيد المغربي، وجعل التجربة أكثر شمولًا ومساواة.

8.2 النجاح رهين بالإصلاح والتطوير

رغم النوايا الحسنة، فإن نجاح هذه التجربة يظل رهينًا بقدرة الدولة على تطوير محتواها، وتحسين شروطها، وضمان ربطها الفعلي بمسارات التنمية. فالتجنيد لا يجب أن يكون معزولًا عن باقي السياسات العمومية، بل أن يكون حلقة في سلسلة متكاملة تسعى للنهوض بالشباب المغربي، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة.

 

الفصل الثامن: توصيات عملية

بناءً على ما تقدم، يمكن تقديم التوصيات التالية:

1.  تعزيز الشفافية في معايير الاستدعاء والإعفاء لضمان العدالة والحد من الإشاعات والتأويلات.

2.  توسيع مجالات التكوين المهني داخل مراكز الخدمة لتشمل التخصصات الحديثة والمتطلبات الفعلية لسوق الشغل.

3.  إحداث برامج دعم ما بعد الخدمة مثل منح المقاولات الناشئة، أولوية في التوظيف، أو منح لاستكمال التعليم.

4.  الرفع من التنسيق بين الوزارات والمؤسسات المعنية بالتكوين والشغل لتسهيل إدماج المجندين بعد نهاية خدمتهم.

5.  تعزيز الدعم النفسي والاجتماعي للمجندين خلال وبعد فترة التجنيد، خاصة للفئات الهشة.

6.  إشراك المجتمع المدني في تقييم وتتبع التجربة لضمان التفاعل البناء بين الدولة والمجتمع.

 

كلمة ختامية

تعود الخدمة العسكرية في المغرب محمّلة بآمال وطموحات، لكنها أيضًا تواجه تحديات واقعية تتطلب الحسم والحكمة. إنها ليست مجرد تجربة انضباطية أو ظرفية، بل مشروع مجتمعي كبير يستهدف الإنسان المغربي في أوج شبابه. ونجاح هذا المشروع يتطلب الثقة، التقييم، والمواكبة المستمرة.

الشباب المغربي اليوم لا يبحث فقط عن "الخدمة"، بل عن المعنى، الفرصة، والمستقبل. وإذا ما توفرت الإرادة الصادقة لدى مختلف الفاعلين، فإن الخدمة العسكرية يمكن أن تتحول من تجربة محدودة في الزمان إلى مدرسة مستمرة في بناء المواطنة والتنمية.

 

تعليقات